عبدالله الغنيم
07-14-2011, 09:43PM
سِجَالُ الفُحُول ، في حُبِّ الأوَّلِ والأخِيْر !
كلُّنا يعرفُ ذلِكَ البيتَ المشهورَ الذي أبدعَهُ أبُو تَمَّام :
نقِّلْ فُؤادَكَ حيثُ شئتَ من الهَوَى *** مَــا الـحُبُّ إلا لِـلـحَبيبِ الأوَّلِ
ولكن قد يجهلُ البعضُ أن هذا البيتَ قد أشعل وهْجَ ونيرانَ السّجال والمناقضةِ بين فحول الشعراء ، بين مؤيد ومعارض ، ومدافع ومرافع ، ومجادل ومناضل !
والحَدَثُ لا يحتاج إلى ديباجةٍ مزخرفَة ، أو إطلالةٍ مصفصفَة.. فعلى بركة الله نستهلُّ القصة :
صدَحَ أبو تمام منشداً ، ورفع عقيرتَه بقصيدة شامِخة باسِقة ، ورد فيها هذان البيتان ، وهما بيتا القصيد !
نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئت من الهَوَى *** مــا الـحبُّ إلا لـلـحبيبِ الأولِ
كم منزل في الأرض يألفُهُ الفتـى *** وحنينُهُ أبـْـداً لأوَّل مــنــــزلِ
جالت القصيدة أرجاء المعمورة آنذاك ، حتى وصلت أسماع أحد الشعراء ويسمى عبدُ السلام بنُ رغبان ، واشتُهرَ بلقبِ : ( دِيْكِ الجِنّ ) ؛ لأن عينيه كانتا خضراوَين .. فلما سمعها صال وجال ، وقال ذا محال ! ولم يعجبه رأيَ أبي تمام ، فقذف بالشرارة الأولى قائلاً :
اِشْرَبْ على وَجْهِ الحَبيبِ المُقْبِلِ *** وعلى الفَمِ المُتَبَسِّمِ المُتقبّلِ
شُـربــاً يُـذَكِّـرُ كــلَّ حُــبٍّ آخِـــرٍ *** غَـضٍّ ويُـنْـسي كُلَّ حُبٍّ أَوّلِ
كذب الذين تحدثوا أن الـهـوى *** لا شـك فــيــه للحـبيب الأولِ
مالي أَحِنُّ إلى خَـرابٍ مُـقْـفِــرٍ *** دَرَسَتْ مَعالِمُهُ كأَنْ لَمْ يُؤْهَلِ ؟!
عشقي لِمَنْزلِيَ الذي اسْتَحدثْتُهُ *** أَمّا الذي وَلّى فليسَ بِمَنْزِلي
فبلَغَتْ أبياتُ ( ديك الجن الحمصي ) أبا تمام .. فما كان من أبي تمام – الحكيم - إلا أن رد عليه ووضح رأيه بحُجةٍ قوية ، فقال :
كَذَبَ الذين تخرَّصوا في قولِهِم *** ما الحبُّ إلا للحبيبِ المُقبِلِ
أوَ طيِّبٌ في الطعم ما قد ذقته *** من مأكل أو طعمُ ما لَم يُؤكلِ ؟!
حقيقة .. قول أبي تمام فيه حكمة وقوة رد .
لكن ديك الجن مازال مصراً على رأيه ، مسفِّهاً رأي أبي تمام ، فردَّ قائلاً :
ارغب عـن الحُـبِّ القـديم الأول *** وعليك بالمستأنف المستقبلِ
نقِّلْ فؤادك حيثُ شئت فلن ترى *** كهوىً جديد أو كوجهٍ مقبلِ !
ثم انبرى شاعر آخر مؤيداً ديكَ الجنِّ ، ومناصراً له ، وقاصفاً أبا تمام بصاروخ ( أرض جو ) ! فقال :
افخرْ بآخر مَن بُليت بِحُبِّهِ *** لا خيرَ في حبِّ الحبيبِ الأولِ
أتشكُّ في أنَّ النَّبِيَّ مُحَمَّداً *** سَادَ البريَّةَ وهوَ آخرُ مُرسَلِ ؟!
قطعاً .. لا نشكُّ أبداً ! أقول منصفاً : بيتٌ صخريٌ وردٌّ قوي .. !
ولمَّا حصلَ ما حصل بين الشُّعراء ، تدخَّل الشاعرُ( أبو البرق ) متوسطاً ، بُغْيةَ حلَّ
النزاع ، وفكِّ الصراع ، فقال قولاً – أحسبُهُ - جميلاً ورأياً سديداً :
زادُوا على المعنى فكلٌّ مُحسِنٌ *** والحقُّ فيه مقالةٌ لَمْ تجهَلِ
الحُبُّ للمحبوبِ ساعةَ وَصْلـِهِ *** مـا الحُـبُّ فيهِ لآخرٍ ولأوَّلِ
ثم تدخل شاعر أخر - أراه متوسطاً - ؛ يريد الجمع بين الأول والآخر ، فاشترك قائلاً :
قـلـبـي رهيـنٌ بالهوى المتنقِّلِ *** فالويل لي في الحبِّ إن لَم أعدلِ
أنـا مـبـتـلٍ ببليَّتينِ مِـنَ الهَوَى *** شَـوقٍ إلـى الـثـانـي وذِكْرِ الأوَّلِ
فهما حياتي كالطَّعام المُشتَهَى *** لا بـدَّ مـنْـهُ وكالـشَّـرابِ السَّلسَلِ
قِـسْـمُ الـفـؤادِ لـحُـرمـةٍ وللذةٍ *** في الحبِّ من ماضٍ ومن مستقبلِ
إنـي لأحـفـظُ عـَهْـدَ أوَّل منزل *** أبـَـداً وآلـَـفُ طـيـبَ آخـر مَـنـزلِ
لكن ابن طباطبا العلوي أراد أن يقضيَ على أرباب (حُبِّ الأوَّل) فقال :
دَع حُـب أَول مِـن كَـلـَفـت بِحُبه *** مــا الـحُـب إِلّا لِـلـحَبـيـب الآخرِ
ما قَد تَوَلى لا اِرتِـجـاع لِـطـيبـه *** هَل غائبُ اللذاتِ مثل الحاضرِ؟!
إِنَّ المَشيبَ وَقَـد وَفـى بِـمَـقـامِهِ *** أَوفـى لَـدَيَّ مِن الشَباب الغادرِ
دُنياكَ يَومك دونَ أمسِك فَاعـتبر*** ما السَّالفُ المَفقودُ مِثلُ الغابرِ
وفي الأخير ...
سَلُوْا أنفسكم أيُّها الأعزَّاء : أيَّ فريقٍ اتبعتُم ، وأيَّ مسلكٍ سلكتم ، وأيَّ شِعبٍ أوغلتم
.. ثُمَّتَ خبِّروني ! .
أما أنا فقد دخلتُ دارَ أبي سُفيان ! .
والسَّلام ... .
كلُّنا يعرفُ ذلِكَ البيتَ المشهورَ الذي أبدعَهُ أبُو تَمَّام :
نقِّلْ فُؤادَكَ حيثُ شئتَ من الهَوَى *** مَــا الـحُبُّ إلا لِـلـحَبيبِ الأوَّلِ
ولكن قد يجهلُ البعضُ أن هذا البيتَ قد أشعل وهْجَ ونيرانَ السّجال والمناقضةِ بين فحول الشعراء ، بين مؤيد ومعارض ، ومدافع ومرافع ، ومجادل ومناضل !
والحَدَثُ لا يحتاج إلى ديباجةٍ مزخرفَة ، أو إطلالةٍ مصفصفَة.. فعلى بركة الله نستهلُّ القصة :
صدَحَ أبو تمام منشداً ، ورفع عقيرتَه بقصيدة شامِخة باسِقة ، ورد فيها هذان البيتان ، وهما بيتا القصيد !
نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئت من الهَوَى *** مــا الـحبُّ إلا لـلـحبيبِ الأولِ
كم منزل في الأرض يألفُهُ الفتـى *** وحنينُهُ أبـْـداً لأوَّل مــنــــزلِ
جالت القصيدة أرجاء المعمورة آنذاك ، حتى وصلت أسماع أحد الشعراء ويسمى عبدُ السلام بنُ رغبان ، واشتُهرَ بلقبِ : ( دِيْكِ الجِنّ ) ؛ لأن عينيه كانتا خضراوَين .. فلما سمعها صال وجال ، وقال ذا محال ! ولم يعجبه رأيَ أبي تمام ، فقذف بالشرارة الأولى قائلاً :
اِشْرَبْ على وَجْهِ الحَبيبِ المُقْبِلِ *** وعلى الفَمِ المُتَبَسِّمِ المُتقبّلِ
شُـربــاً يُـذَكِّـرُ كــلَّ حُــبٍّ آخِـــرٍ *** غَـضٍّ ويُـنْـسي كُلَّ حُبٍّ أَوّلِ
كذب الذين تحدثوا أن الـهـوى *** لا شـك فــيــه للحـبيب الأولِ
مالي أَحِنُّ إلى خَـرابٍ مُـقْـفِــرٍ *** دَرَسَتْ مَعالِمُهُ كأَنْ لَمْ يُؤْهَلِ ؟!
عشقي لِمَنْزلِيَ الذي اسْتَحدثْتُهُ *** أَمّا الذي وَلّى فليسَ بِمَنْزِلي
فبلَغَتْ أبياتُ ( ديك الجن الحمصي ) أبا تمام .. فما كان من أبي تمام – الحكيم - إلا أن رد عليه ووضح رأيه بحُجةٍ قوية ، فقال :
كَذَبَ الذين تخرَّصوا في قولِهِم *** ما الحبُّ إلا للحبيبِ المُقبِلِ
أوَ طيِّبٌ في الطعم ما قد ذقته *** من مأكل أو طعمُ ما لَم يُؤكلِ ؟!
حقيقة .. قول أبي تمام فيه حكمة وقوة رد .
لكن ديك الجن مازال مصراً على رأيه ، مسفِّهاً رأي أبي تمام ، فردَّ قائلاً :
ارغب عـن الحُـبِّ القـديم الأول *** وعليك بالمستأنف المستقبلِ
نقِّلْ فؤادك حيثُ شئت فلن ترى *** كهوىً جديد أو كوجهٍ مقبلِ !
ثم انبرى شاعر آخر مؤيداً ديكَ الجنِّ ، ومناصراً له ، وقاصفاً أبا تمام بصاروخ ( أرض جو ) ! فقال :
افخرْ بآخر مَن بُليت بِحُبِّهِ *** لا خيرَ في حبِّ الحبيبِ الأولِ
أتشكُّ في أنَّ النَّبِيَّ مُحَمَّداً *** سَادَ البريَّةَ وهوَ آخرُ مُرسَلِ ؟!
قطعاً .. لا نشكُّ أبداً ! أقول منصفاً : بيتٌ صخريٌ وردٌّ قوي .. !
ولمَّا حصلَ ما حصل بين الشُّعراء ، تدخَّل الشاعرُ( أبو البرق ) متوسطاً ، بُغْيةَ حلَّ
النزاع ، وفكِّ الصراع ، فقال قولاً – أحسبُهُ - جميلاً ورأياً سديداً :
زادُوا على المعنى فكلٌّ مُحسِنٌ *** والحقُّ فيه مقالةٌ لَمْ تجهَلِ
الحُبُّ للمحبوبِ ساعةَ وَصْلـِهِ *** مـا الحُـبُّ فيهِ لآخرٍ ولأوَّلِ
ثم تدخل شاعر أخر - أراه متوسطاً - ؛ يريد الجمع بين الأول والآخر ، فاشترك قائلاً :
قـلـبـي رهيـنٌ بالهوى المتنقِّلِ *** فالويل لي في الحبِّ إن لَم أعدلِ
أنـا مـبـتـلٍ ببليَّتينِ مِـنَ الهَوَى *** شَـوقٍ إلـى الـثـانـي وذِكْرِ الأوَّلِ
فهما حياتي كالطَّعام المُشتَهَى *** لا بـدَّ مـنْـهُ وكالـشَّـرابِ السَّلسَلِ
قِـسْـمُ الـفـؤادِ لـحُـرمـةٍ وللذةٍ *** في الحبِّ من ماضٍ ومن مستقبلِ
إنـي لأحـفـظُ عـَهْـدَ أوَّل منزل *** أبـَـداً وآلـَـفُ طـيـبَ آخـر مَـنـزلِ
لكن ابن طباطبا العلوي أراد أن يقضيَ على أرباب (حُبِّ الأوَّل) فقال :
دَع حُـب أَول مِـن كَـلـَفـت بِحُبه *** مــا الـحُـب إِلّا لِـلـحَبـيـب الآخرِ
ما قَد تَوَلى لا اِرتِـجـاع لِـطـيبـه *** هَل غائبُ اللذاتِ مثل الحاضرِ؟!
إِنَّ المَشيبَ وَقَـد وَفـى بِـمَـقـامِهِ *** أَوفـى لَـدَيَّ مِن الشَباب الغادرِ
دُنياكَ يَومك دونَ أمسِك فَاعـتبر*** ما السَّالفُ المَفقودُ مِثلُ الغابرِ
وفي الأخير ...
سَلُوْا أنفسكم أيُّها الأعزَّاء : أيَّ فريقٍ اتبعتُم ، وأيَّ مسلكٍ سلكتم ، وأيَّ شِعبٍ أوغلتم
.. ثُمَّتَ خبِّروني ! .
أما أنا فقد دخلتُ دارَ أبي سُفيان ! .
والسَّلام ... .