عبدالله الغنيم
10-26-2010, 12:20AM
( المَقَامَات )
مُقَدِّمَة
بِسْمِ اللهِ العَلِيِّ المَنَّان ، بَدِيعِ الكَونِ عَظِيمِ الشَّان . أحمدُه وأنا عبدُه ، حمدَ الشاكرين القانتين ، وأستعينُه وأستهديه ، وأستبينُه وأستجديه . أمَّا بَعد ...
هذِهِ ( مَقَامَاتٌ أدبيَّة ) ، وشَذَرَاتٌ فِكْريَّة .. لستُ البدْعَ المبتكِر ، ولا النِّدَ المقتدِر ؛ افتضَّها بديعُ الزَّمَان البَدِيع ، واقتفاه الحريريُّ الضَّليع ...
فعلى الله اتكلْت ، وبالمعين اتصلْت ، رفعتُ العَلَم ، وامتطيتُ القَلَم ، وبدأتُ في سبك الجُمل ، ومن سار على الدَّرب وصَل ..
ونسبتُ بُطولاتِهَا إلى ( أبي الشَّمَقْمَق الدِّمَقْسِي ) ، ورواياتها إلى ( المِقدَام بن الحَارث ) . وليس لهما أصلٌ ولا فصلٌ ، بل هما وحيُ عقل . وسلكتُ – عمْداً – السهلَ القريب ، وتجنَّبتُ - قصْداً - الوَعْر الغريب ؛ لتكون المقامةُ لكلِّ الشَّرائح ، ومنهلَ كلِّ سَائح ، ومرتعَ كل نائح . وآثرتُ الاختصارَ على الإكثار .. ولم أتكلَّف ولم أتزلَّف ؛ فهي من الفِكر إلى الحِبر على السَّطر ، ومن الرأس إلى النِّقْس (1) على الطِّرس ..
وكلُّ مَا نُظِمَ فيهَا ، ونُثِرَ في نَوَاحِيهَا ، فَهُوَ مِنْ مَنْظُومِ أشْعَاري ، ومِنْ مَنْثُور أفكَاري ، إلا ما نصَصْتُ إليه من شِعر الفُحُول ، والفرق بيننا مَهُول ! .
جزى اللهُ من أشعَل الفِكر ، وأكثر الذِّكر ، وجوَّد الرسنَ وعَبَر ، وأدرك الحَسَن وشَكَر ، وجاوزَ الطَّامن وسَتَر .
فَمَن رأى الجزْل فمِن رَبي ، ومن رأى الهزْل فمِن ذنبي ..
ومسكُ الخِتام
يَا كِرام
السَّلام
المَقَامَةُ الأُوْلَى
الْـمَـقـَـامَــة النُّـوْريـَّــة
رَوَى المِقدامُ بنُ الحَارث قال : عَشِقْتُ السَّفرَ كعشق المَطَر ، أجُوسُ خِلال الدِّيَار ، وأسبُرُ كلَّ الأغوَار ، وأسلكُ وَعْر القِفَار .. فلا يهْدأ لي بَال ، ولا يحلُو لي مَقال ، حتَّى أمشِي في مناكِب الأرض ، وأحيي السُّنَّة والفَرْض ..
فبينا أنا حولَ الخُضرَة والنُّضرَة ، أسرِّح النَّظرَة تِلوَ النَّظرَة ، عَلَى فَرسَخ من ضَوَاحِي البصرَة ، إذا رجلٌ رثُّ القَميْص ، ذو بطن خَمِيْص (2) ، مُهَفْهَفُ القامة (3) ، مُتَوَّجُ الهَامَة بالعِمَامَة .. التفَّ حولَه النَّاس ، واحتكَّ الرأسُ بالرأس ..
فأخذني الفُضُول ، فدنوتُ للمُثُول . فسمِعتُه يقُول : أيُّهَا النَّاس ! يا معشرَ الفرَّاس ! الزمُوا النُّورَ المُبين ، والحبلَ المتين ؛ فيهِ العِبرة ، وطمسُ العَبرة ، في آيِهِ بُعْدُ النَّظَر ، في بَطنِهِ حلوُ الثَّمَر .. هو بُلْجَة النفوس ، وسُلَّم الفردَوس ، ومُنتهَى البَلاغَة ، وبحرُ الصِّياغَة ، هو البحرُ الخِضَمّ ، كثيرَ الخَير يَضُمّ ، واسعُ العِظَم ، فصِيحُ النَّظْم ... .
ثمَّ أنْشَأَ يَقُوْل :
أيُّهَا القَاري لَهُ ** في الصَّبَاح والمَسَا !
جنَّةُ الدُّنيَا بِهِ ** لِيْنُ قَلْبٍ إنْ قَسَا
نُوْرُ وَجْهٍ إنْ سَجَا ** لُطْفُ طَبْعٍ إنْ جَسَا (4)
يَهْبِطُ الصَّخْرُ لَهُ ** لَو عَلَى ضِلْعٍ رَسَا
حَفِّظُوا أولادَكُم ** يَا رجَالُ يَا نِسَا !
فعجبتُ مما هالني من بيانِه ، وما سمعته من لسانِه .. فدنوتُ منه واقتربتُ ، فقلتُ : مَن الرَّجل ؟ صَاحِب الكَلِم المُرتَجل .
قالَ : ( أنَا النَّذيرُ المُبين ) ! .
قلتُ : ذلكَ رفيعُ المَقام ، محمدٌ عليهِ السَّلام .
قالَ : ( لَقدْ كَانَ لكُم في رسولِ اللهِ أسْوةٌ حَسَنَة ) .
قلتُ : أريدُ من طِرازك ، ومن فنِّ مَجَازك .
قال : ( أتَسْتَبدِلُونَ الذي هُوَ أدْنَى بالذي هُو خَيْر ) !!
قلتُ : من أيِّ البَلاد ، رفيعُ العِمَاد ، طَوِيلُ النِّجَاد (5) ؟
قالَ : ( وَمَن يُهَاجِر في سبيلِ اللهِ يجِدْ في الأرض مُرَاغَمَا كثيراً وسَعَة ) .
قلتُ : وَمَن علَّمَك ، وباللفْظِ قَوَّمَك ؟
قالَ : ( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إلهَ إلا هُو ) .
قلتُ : ومَن وراءَ حُسْنِك ، وجَمَالِ لِسْنِك (6) ؟
قالَ : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله ) .
قلتُ : ومَاذا عَنْ شُعراءِ العَرب وفُصَحَائِهِم ؟
قالَ : ( ولا يَأتُونَكَ بِمَثَلٍ إلا جِئْنَاكَ بالحَقِّ وأحْسَنَ تَفْسِيْرَا ) ! .
فأيقنتُ أنِّي لَو حاورتُهُ حتَّى يتنفسَ الصُّبح ، وتبلغَ الشمسُ قيدَ رُمْح ، لَمَا نَطَقَ بغير القُرآن ، وما فَارقَ خيرَ البَيَان !
فقلتُ : سألتكَ بالله العَظِيْم ، ربِّ العرش الكَريْم ، الذي تَنْطِقُ بَكَلامِه ، وتؤمن بكَمَالِه ، أنْ تُخْبِرَنِي مَنْ أنْتَ ؟
قالَ : ( إنَّمَا الصَّدَقاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِيْن ) .
فَعَلِمْتُ أنَّهُ يريدُ مَالاً ونَوَالاً . فناولتُهُ ثلاثةَ دَنَانِيْر ، وتَبِعَنِي الجَمَاهِيْر ..
فأخَذَهَا وقالَ : أنَا ( أبُو الشَّمَقْمَق الدِّمَقْسِي ) . ثمَّ أنْشَدَ يَقُوْل :
أجُوسُ خِلالَ الدِّيَار العَوَالِي ** وأرْكَبُ بَحْرَاً خِضَمَّاً هَدَر
فَيَوْمَاً بِـَنَجْدٍ وَيَومَاً بِـبُصْرَى ** وَيَوْمَاً أجُوسُ بِلادَ الغَجَر !!
فأخَذَ بَعضُنَا يَلحَظُ بَعضاً ويردِّدُ اسْمَهُ ، حتى غابَ عن الأنْظَار ، وبِلَمْحَةِ الأبْصَار .. ! .
فَدَنَا اللَّيلُ بِسَجَاهُ وحَنَادِسِه ، ودَيَاجِيْه وكَرَادِسِه .. ثمَّ تَخَطَّى وتَمَطَّى ، وأردفَ أعْجَازاً ونَاءَ بكَلْكَلِ ، فأبطَأ
عَلَيَّ ولمْ يَنْجَلِ ، فَمَا غَابَ لِي مُذ غَابَ جَفْنٌ ، ولا نَفَعَ في الهَمِّ دَفْنٌ ؛ حَسْرَةً عَلَيْهِ ونَدَامَة .
ليتَ لِي قَلْبَ أبِي دُلامَة !! .
(1) النِّقْس : المِداد .
(2) خميص البطن : ضامر البطن ، دقيق الخِلْقَة .
(3) مُهَفهَف القامة : أي خَميصُ البطن ، دقيقُ الخَصْر .
(4) جَسَا : ضد لطُفَ .
(5) طويل النِّجاد : كناية عن طول القامة .
(6) اللِّسْن : اللًّغة .
مُقَدِّمَة
بِسْمِ اللهِ العَلِيِّ المَنَّان ، بَدِيعِ الكَونِ عَظِيمِ الشَّان . أحمدُه وأنا عبدُه ، حمدَ الشاكرين القانتين ، وأستعينُه وأستهديه ، وأستبينُه وأستجديه . أمَّا بَعد ...
هذِهِ ( مَقَامَاتٌ أدبيَّة ) ، وشَذَرَاتٌ فِكْريَّة .. لستُ البدْعَ المبتكِر ، ولا النِّدَ المقتدِر ؛ افتضَّها بديعُ الزَّمَان البَدِيع ، واقتفاه الحريريُّ الضَّليع ...
فعلى الله اتكلْت ، وبالمعين اتصلْت ، رفعتُ العَلَم ، وامتطيتُ القَلَم ، وبدأتُ في سبك الجُمل ، ومن سار على الدَّرب وصَل ..
ونسبتُ بُطولاتِهَا إلى ( أبي الشَّمَقْمَق الدِّمَقْسِي ) ، ورواياتها إلى ( المِقدَام بن الحَارث ) . وليس لهما أصلٌ ولا فصلٌ ، بل هما وحيُ عقل . وسلكتُ – عمْداً – السهلَ القريب ، وتجنَّبتُ - قصْداً - الوَعْر الغريب ؛ لتكون المقامةُ لكلِّ الشَّرائح ، ومنهلَ كلِّ سَائح ، ومرتعَ كل نائح . وآثرتُ الاختصارَ على الإكثار .. ولم أتكلَّف ولم أتزلَّف ؛ فهي من الفِكر إلى الحِبر على السَّطر ، ومن الرأس إلى النِّقْس (1) على الطِّرس ..
وكلُّ مَا نُظِمَ فيهَا ، ونُثِرَ في نَوَاحِيهَا ، فَهُوَ مِنْ مَنْظُومِ أشْعَاري ، ومِنْ مَنْثُور أفكَاري ، إلا ما نصَصْتُ إليه من شِعر الفُحُول ، والفرق بيننا مَهُول ! .
جزى اللهُ من أشعَل الفِكر ، وأكثر الذِّكر ، وجوَّد الرسنَ وعَبَر ، وأدرك الحَسَن وشَكَر ، وجاوزَ الطَّامن وسَتَر .
فَمَن رأى الجزْل فمِن رَبي ، ومن رأى الهزْل فمِن ذنبي ..
ومسكُ الخِتام
يَا كِرام
السَّلام
المَقَامَةُ الأُوْلَى
الْـمَـقـَـامَــة النُّـوْريـَّــة
رَوَى المِقدامُ بنُ الحَارث قال : عَشِقْتُ السَّفرَ كعشق المَطَر ، أجُوسُ خِلال الدِّيَار ، وأسبُرُ كلَّ الأغوَار ، وأسلكُ وَعْر القِفَار .. فلا يهْدأ لي بَال ، ولا يحلُو لي مَقال ، حتَّى أمشِي في مناكِب الأرض ، وأحيي السُّنَّة والفَرْض ..
فبينا أنا حولَ الخُضرَة والنُّضرَة ، أسرِّح النَّظرَة تِلوَ النَّظرَة ، عَلَى فَرسَخ من ضَوَاحِي البصرَة ، إذا رجلٌ رثُّ القَميْص ، ذو بطن خَمِيْص (2) ، مُهَفْهَفُ القامة (3) ، مُتَوَّجُ الهَامَة بالعِمَامَة .. التفَّ حولَه النَّاس ، واحتكَّ الرأسُ بالرأس ..
فأخذني الفُضُول ، فدنوتُ للمُثُول . فسمِعتُه يقُول : أيُّهَا النَّاس ! يا معشرَ الفرَّاس ! الزمُوا النُّورَ المُبين ، والحبلَ المتين ؛ فيهِ العِبرة ، وطمسُ العَبرة ، في آيِهِ بُعْدُ النَّظَر ، في بَطنِهِ حلوُ الثَّمَر .. هو بُلْجَة النفوس ، وسُلَّم الفردَوس ، ومُنتهَى البَلاغَة ، وبحرُ الصِّياغَة ، هو البحرُ الخِضَمّ ، كثيرَ الخَير يَضُمّ ، واسعُ العِظَم ، فصِيحُ النَّظْم ... .
ثمَّ أنْشَأَ يَقُوْل :
أيُّهَا القَاري لَهُ ** في الصَّبَاح والمَسَا !
جنَّةُ الدُّنيَا بِهِ ** لِيْنُ قَلْبٍ إنْ قَسَا
نُوْرُ وَجْهٍ إنْ سَجَا ** لُطْفُ طَبْعٍ إنْ جَسَا (4)
يَهْبِطُ الصَّخْرُ لَهُ ** لَو عَلَى ضِلْعٍ رَسَا
حَفِّظُوا أولادَكُم ** يَا رجَالُ يَا نِسَا !
فعجبتُ مما هالني من بيانِه ، وما سمعته من لسانِه .. فدنوتُ منه واقتربتُ ، فقلتُ : مَن الرَّجل ؟ صَاحِب الكَلِم المُرتَجل .
قالَ : ( أنَا النَّذيرُ المُبين ) ! .
قلتُ : ذلكَ رفيعُ المَقام ، محمدٌ عليهِ السَّلام .
قالَ : ( لَقدْ كَانَ لكُم في رسولِ اللهِ أسْوةٌ حَسَنَة ) .
قلتُ : أريدُ من طِرازك ، ومن فنِّ مَجَازك .
قال : ( أتَسْتَبدِلُونَ الذي هُوَ أدْنَى بالذي هُو خَيْر ) !!
قلتُ : من أيِّ البَلاد ، رفيعُ العِمَاد ، طَوِيلُ النِّجَاد (5) ؟
قالَ : ( وَمَن يُهَاجِر في سبيلِ اللهِ يجِدْ في الأرض مُرَاغَمَا كثيراً وسَعَة ) .
قلتُ : وَمَن علَّمَك ، وباللفْظِ قَوَّمَك ؟
قالَ : ( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إلهَ إلا هُو ) .
قلتُ : ومَن وراءَ حُسْنِك ، وجَمَالِ لِسْنِك (6) ؟
قالَ : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله ) .
قلتُ : ومَاذا عَنْ شُعراءِ العَرب وفُصَحَائِهِم ؟
قالَ : ( ولا يَأتُونَكَ بِمَثَلٍ إلا جِئْنَاكَ بالحَقِّ وأحْسَنَ تَفْسِيْرَا ) ! .
فأيقنتُ أنِّي لَو حاورتُهُ حتَّى يتنفسَ الصُّبح ، وتبلغَ الشمسُ قيدَ رُمْح ، لَمَا نَطَقَ بغير القُرآن ، وما فَارقَ خيرَ البَيَان !
فقلتُ : سألتكَ بالله العَظِيْم ، ربِّ العرش الكَريْم ، الذي تَنْطِقُ بَكَلامِه ، وتؤمن بكَمَالِه ، أنْ تُخْبِرَنِي مَنْ أنْتَ ؟
قالَ : ( إنَّمَا الصَّدَقاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِيْن ) .
فَعَلِمْتُ أنَّهُ يريدُ مَالاً ونَوَالاً . فناولتُهُ ثلاثةَ دَنَانِيْر ، وتَبِعَنِي الجَمَاهِيْر ..
فأخَذَهَا وقالَ : أنَا ( أبُو الشَّمَقْمَق الدِّمَقْسِي ) . ثمَّ أنْشَدَ يَقُوْل :
أجُوسُ خِلالَ الدِّيَار العَوَالِي ** وأرْكَبُ بَحْرَاً خِضَمَّاً هَدَر
فَيَوْمَاً بِـَنَجْدٍ وَيَومَاً بِـبُصْرَى ** وَيَوْمَاً أجُوسُ بِلادَ الغَجَر !!
فأخَذَ بَعضُنَا يَلحَظُ بَعضاً ويردِّدُ اسْمَهُ ، حتى غابَ عن الأنْظَار ، وبِلَمْحَةِ الأبْصَار .. ! .
فَدَنَا اللَّيلُ بِسَجَاهُ وحَنَادِسِه ، ودَيَاجِيْه وكَرَادِسِه .. ثمَّ تَخَطَّى وتَمَطَّى ، وأردفَ أعْجَازاً ونَاءَ بكَلْكَلِ ، فأبطَأ
عَلَيَّ ولمْ يَنْجَلِ ، فَمَا غَابَ لِي مُذ غَابَ جَفْنٌ ، ولا نَفَعَ في الهَمِّ دَفْنٌ ؛ حَسْرَةً عَلَيْهِ ونَدَامَة .
ليتَ لِي قَلْبَ أبِي دُلامَة !! .
(1) النِّقْس : المِداد .
(2) خميص البطن : ضامر البطن ، دقيق الخِلْقَة .
(3) مُهَفهَف القامة : أي خَميصُ البطن ، دقيقُ الخَصْر .
(4) جَسَا : ضد لطُفَ .
(5) طويل النِّجاد : كناية عن طول القامة .
(6) اللِّسْن : اللًّغة .